فصل: سنة خمس وعشرين وسبعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع وعشرين وسبعمائة:

أهل المحرم يوم الجمعة ثالث شهر طوبة: فقدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز عشية الأحد ثالثه.
وفي يوم الأربعاء سادسه: نودي على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرطل، على أن كل رطل منها بدرهمين، ومن عنده منها شيء يحضره إلى دار الضرب، ويأخذ عنها فضة. ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم وثمن، فضرب منها نحو مائتي ألف درهم فرقت على الصيارف. وكان سبب ذلك كثرة ما دخل في الفلوس من الزغل، حتى صار وزن الفلس نصف درهم. فتوقف الناس عن أخذ الفلوس، وكثر ردها وعقوبة الباعة على ذلك بالضرب والتجريس إلى أن فسد الحال، وغلقت الحوانيت، وارتفعت الأسعار، وبلغ القمح بعد عشرة دراهم الأردب إلى سبعة عشر درهماً.
وفي يوم السبت تاسعه: وصل الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر الساقي من الحجاز، وصحبته جماعة وكان قد سافر بعد الإفراج عنه، وأنعم عليه بألفي دينار وغلال كثيرة، وعمل له السلطان عند قدومه اثنتي عشرة بدلة وثلاثة حوائض وطرز زركش، وأنعم عليه بمال جزيل، وتتابع قدوم الحاج حتى قدم المحمل في خامس عشريه وفيه توجه الأمير أرغون النائب إلى منية بني خصيب، فشكا أهلها من مباشريهم، فلم يسمع لهم وأمر بضربهم، فرجموه بالحجارة وأنكوا في مماليكه وغلمانه. فركب عليهم أرغون ليفتك بهم، ففروا من عند الوطاق خارج البلد إلى داخل البلد، فأخذ مماليكه من عمائم الهاربين نيفاً على ثلاثمائة وستين عمامة زرقاء من عمائم النصارى، فلما استكثر ذلك قيل له إن بها كثيراً من النصارى، ولهم خمس كنائس، فهدمها في ساعة واحدة، ورسم ألا يستخدم نصراني في ديوانه، وكان النصارى قد جددوا عمارة ما خرب من الكنائس بالصعيد، فهدمت أيضاً.
وفي يوم الجمعة: هبت ريح والناس في الصلاة، حتى ظن الناس أن الساعة قامت، واستمرت بقية النهار وطول الليل، فهدم بها دور كثيرة، وامتلأت الأرض بتراب أسود.
وخرجت ريح شديدة ببلاد قوص إلى أسوان، واقتلعت في ليلة واحدة أربعة ألاف نخلة، وخربت الديار.
وفيه قدمت رسل المجاهد سيف الدين بن علي ملك اليمن بطلب نجدة من مصر، فلم يجب إلى ذلك.
وفيها قحطت بلاد الشرق، فقدمت طوائف إلى بلاد الشام، وكان الجراد قد أتلف زروعها، فبلغت الغرارة بدمشق إلى مائتي درهم. فجهز الأمراء من مصر الغلال الكثيرة في البحر إلى بيروت وطرابلس، فكان ما حمل من جهة السلطان والأمراء نحو عشرين ألف أردب سوى ما حمله التجار، فانحط السعر حتى أبيعت الغرارة بثمانين درهماً. وكتب بإبطال مكس الغلة بالشام، وهو على كل غرارة ثلاثة دراهم، وكانث تبلغ في كل سنة ألف ألف ومائتي ألف درهم، فبطل ذلك واستمر بطلانه.
وفيه عزل جمال الدين سليمان الزرعي عن قضاء القضاة بدمشق، واستمر عوضه جلال الدين محمد القزويني، بعد استدعائه إلى القاهرة في يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وقدومه في يوم الجمعة ثالث عشريه. فلما اجتمع القزويني بالسلطان أقبل عليه وصلى به الجمعة، ونزل إلى خانكاه سعيد السعداء، ثم ولاه قضاء القضاة بدمشق، وخلع عليه يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة وسافر القزويني على البريد يوم الإثنين رابع عشريه، فقدم دمشق خامس رجب، وكان عليه ديون اجتمعت عليه بسبب مكارمه، وهي ألف دينار ومائة وستون ديناراً، فأعطاه السلطان ما وفى به ديونه.
وفيه كتب باستقرار كمال الدين محمد بن علي الزملكاني في قضاء حلب، عوضاً عن زين الدين عبد الله بن محمد بن عبد القادر الأنصاري.
وفيه توجه السلطان إلى الصيد بالبحيرة، فاصطاد نحو المائتي غزال بالحياة سوى ما قتل، وجرح كثيراً منها وأطلقها.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأولى: توجه الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربي، لإحضار كريم الدين الكبير وولده من المقدس، فلما كان يوم الخميس خامس عشريه حضرا على البريد تحت الحوطة، فسلما إلى الأمير قجليس، فأقاما كنده إلى يوم حادي عشر ربيع الآخر، ثم طلعا إلى قلعة الجبل، وطولبا بالمال.
وفيه تنكر الحال بين الأميرين تنكز نائب الشام والأمير ألطنبغا نائب حلب.
وفي يوم الخميس عاشر ربيع الآخر: حضر كريم الدين أكرم الصغير على خيل البريد من صفد إلى قلعه الجبل، فعوق ببرج باب القرافة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: سفر كريم الدين بكتمر وولده إلى الوجه القبلي، صحبة والي قوص.
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه: أفرج عن كريم الدين أكرم الصغير، ونزل إلى بيته.
وفي اليلة الأحد خامس عشر جمادى الأولى: طلع القمر مخسوفاً بالسواد.
وفيه قدم منسا موسى ملك التكرور يريد الحج وأقام تحت الأهرام ثلاثة أيام في الضيافة. عدى إلى بر مصر في يوم الخميس سادس عشرى رجب، وطلع إلى القلعة ليسلم على السلطان، وامتنع من تقبيل الأرض، فلم يجبر على ذلك، غير أنه لم يمكن من الجلوس في الحضرة السلطانية. وأمر السلطان بتجهيزه للحج، فنزل وأخرج ذهباً كثيراً في شراء ما يريد من الجواري والثياب وغير ذلك، حتى انحط الدينار ستة دراهم.
وفي يوم الخميس ثامن رمضان: عزل الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام عن الوزارة، ولزم بيته. واستقر عوضه الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي وزيراً، مع مابيده من الأستادارية، في يوم السبت عاشره.
وفيه استقر شهاب الدين بن الأقفهسي في نظر الدواوين، عوضاً عن الموفق، وعن شرف الدين بن زنبور. وولي مجد الدين إبراهيم بن لفيتة نظر البيوت، عوضاً عن الأقفهسي المذكور. ثم قدم شمس الدين غبريال من دمشق باستدعاء في أثناء شهر رمضان، فاستقر ناظر الدواوين ووزير الصحبة ونائب الوزارة، في يوم الجمعة ثاني عشرى رمضان يوم وصوله.
واستقر في يوم الجمعة ثالث عشرى رمضان الأمير سيف الدين قدادار في ولاية القاهرة، عوضاً عن علم الدين سنجر الخازن نقل إليها من ولاية البحيرة، ففتك في العامة، ومنع من الخمور وأراقها، فعظمت مهابته.
وفيه عزل علم الدين سنجر الحمصي من شد الدواوين، وولي الجيزة نحو شهرين، ثم أخرج إلى طرابلس شاد الدواوين بها.
وفيه استقر علاء الدين أيدغدي الباشقردي بمصر، عوضاً عن علاء الدين ابن أمير حاجب.
وفيه استقر ابن زنبور في نظر خزائن السلاح، عوضاً عن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم أحمد بن ظافر البرلسي. واستقر ابن البرلسي في نظر بيت المال، عوضاً عن تاج الدين بن السكري، واستقر ابن السكري شاهد الخزانة الكبرى.
وفيه استقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الشام، عوضاً عن غبريال، في يوم السبت رابع عشرى رمضان، وخرج على البريد يوم الإثنين سابع عشرى شوال.
وفي يوم السبت ثماني عشرى شوال. فتحت الحمام بقرب رحبة الأيدمري، وقد جددها الأمير الحاج آل ملك.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشريه: رحل الركب من بركة الحاج إلى الحجاز.
وفي يوم الإثنين ثامن ذي القعدة: قدمت رسل أبي سعيد بسبب المصاهرة مع السلطان، فأعيدوا بعد إكرامهم.
وفيه رسم بإغلاق دكاكين النشاب، وهدم مرامي النشاب.
وفيه فشت الأمراض في الناس بالشام ومصر والصعيد، وكثر الموت السريع، ومرض السلطان ثمانية عشر يوماً وعوفي، فعملت التهاني والأفراح سبعة أيام، وكتب بالبشاره إلى الأعمال على يد الأمير قطلوبغا المغربي، فحصل له ستة ألاف دينار وثلاثون فرساً وثلاثمائة قطعة قماش وست خلع كاملة بحوائص ذهب، فلما حضر أنعم عليه السلطان بعد ذلك بتشريف.
وفيها أخرج الأقوش المنصوري أميراً بدمشق. وسبب ذلك مرافعة ولده حتى قبض عليه يوم الجمعة سادس عشرى رجب، ثم أفرج عنه في سلخه، ورسم له بإمرة في حلب، فخرج على البريد في عشية نهاره.
وفي سادس عشرى رجب: استقر الأمير ألطنقش أستاداراً، عوضاً عن الأمير جمال الدين يغمور بعد موته، وكانت وفاة الأمير يغمور في خامس عشرى جمادى الآخرة.
وفي ثالث شعبان: قدم المجردون إلى النوبة، وقد غابوا ثمانية أشهر.
وفيه منع الأجناد من الاجتماع بسوق الخيل.
وفيه قدم الخبر بهبوب الريح في بلاد الصعيد، وأنها اقتلعت من ناحية عرب قمولة زيادة على أربعة ألاف نخلة في ساعة واحدة، وأخرحت عدة أماكن بأحميم وأسيوط وأسوان وبلاد السودان، وهلك منها كثير من الناس والدواب.
وفي ذي القعدة: طولب الصاحب أمين الدين والموفق ناظر الدولة بثمن كتان من خراج الجيزة قيمته مائة ألف درهم، خص الصاحب منها مبلغ خمسين ألفاً، وخص الموفق مبلغ خمسة وعشرين ألفاً، فاستخرج ذلك من جوامك المباشرين.
وكان قاع النيل في هذه السنة ستة أذرع وعشرين أصبعاً، وكان الوفاء في يوم الأربعاء تاسع شعبان وثامن مسرى. وانتهت الزيادة إلى ثمانيه عشر ذراعاً وتسعة عشمر أصبعاً، فغرقت الأقصاب والمعاصر وكثرة من شون الغلال، وصارت المراكب لا تجد براً تضرب فيه الوتد من قوص إلى القاهرة، وغرقت الفيوم لانقطاع جسرها، وتوجه الأمير بكتمر الحسامي لعمارته.
وفيها قرر السلطان أن تعمل له كل يوم أوراق بالحاصل والمصروف، فصارت تعرض عليه كل يوم، وتحدث في الأموال بنفسه.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

برهان الدين أبو اسحاق إبراهيم بن ظافر، يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، كان فقيهاً شافعياً.
ومات الشيح نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل البكري الفقيه الشافعي، في يوم الإثنين سادس ربيع الآخر.
ومات تقي الدين محمد الجمال عبد الرحيم بن عمر الباجر بقي الشافعي، في ربيع الآخر بدمشق، قدم القاهرة وأقام بها، وله الملحمة الباجر بقية، واتهم بالزندقة.
وماتت خوند أردكين بنت نوكاي الأشرفية ثم الناصرية، يوم السبت ثالث عشرى المحرم.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الفخري، يوم الجمعة ثامن عشرى جمادى الآخرة، وكان أحد الأمراء الألوف.
ومات الأمير سيف الدين بزلار أمير علم.
ومات الطواشي عنبر الأكبر زمام الدور، في ليلة الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى.
ومات الأمير محمد بن عيس بن مهنا من آل فضل، يوم السبت سابع رجب، قدم القاهرة مراراً.
ومات الأمير قطليجا الزيني من أمراء مصر.
ومات الشيخ الصالح محمود الحيدري، خارج القاهرة.
ومات الأمير بدر الدين بكتمر بدرجك، أحد الأمراء بمصر.
ومات كريم الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن العلم هبة الله بن السديد بثغر أسوان، ليلة الخميس العشرين من شوال، وعاد ابنه علم الدين عبد الله فاعتقل بالقلعة، وأخذ منه مال كثير جداً.
ومات نور الدين علي بن تقي الدين محمد بن مجد الدين حسن بن تاج الدين علي القسطلاني، خطيب جامع عمرو بمصر، في يوم الجمعة حادي عشر ربيع الآخر.
ومات ناصر الدين محمد بن علاء الدين النابلسي، يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى.
ومات بهاء الدين ابن الشيخ جمال الدين بن صفي الدين بن أبي المنصور، يوم الخميس سابع عشرى جمادى الآخرة.
ومات الحسن بن علي الأسواني الفقيه الشافعي، في جمادى الأولى بالمدينة النبوية، وقد أم بها واشتغل ثماني عشرة سنة، وكان فقيهاً صالحاً.

.سنة خمس وعشرين وسبعمائة:

المحرم أوله الأربعاء ثالث عشرى كيهك: وفي يوم الجمعة عاشرة: قدم أوائل الحاج.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: قدم السلطان من الوجه القبلي.
وفي يوم السبت خامس عشريه: وصل المحمل وبقية الحاج، مع الأمير أيتمش المحمدي أمير الركب.
وفيه اجتمع بمصر من رسل الملوك ما لم يجتمع مثلهم في الدولة التركية، وهم: رسل صاحب اليمن، ورسل صاحب إسطنبول، ورسل الأشكري، ورسل متملك سيس، ورسل أبي سعيد، ورسل ماردين، ورسل ابن قرمان، ورسل ملك النوبة، وكلهم يبذلون الطاعة. وسأل الملك المجاهد صاحب اليمن إنجاده بعسكر من مصر، وأكثر من ترغيب السلطان في المال الذي باليمن، وكان قدوم رسله في مستهل صفر. فرسم السلطان بتجهيز العسكر صحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وهو مقدم العسكر. وكان معه من أمراء الطبلخاناه خمسة: وهم آقول الحاجب، وقجمار الجوكندار ويعرف باسم بشاس، وبلبان الصرخدي، وبكتمر العلالي أستادار، وألجاي الساقي الناصري، ومن العشراوات عز الدين أيدمر الكوندكي، وشمس الدين إبراهيم بن التركماني، وأربعة من مقدمي الحلقة، عليها الأمير سيف الدين طينال الحاجب، ومعه خمسة أمراء طبلخاناه، وهم: الأمير ططر الناصري، وعلاء الدين بن طغريل الإيغاني، وجرباش أمير علم، وأيبك الكوندكي، وكوكاي طاز، ومن العشراوات أيضاً بلبان الدواداري، وطرنطاي الإسماعيلي والي باب القلة، وأربعة أخرون من مقدمي الحلقة، ومن المماليك السلطانية ثلاثمائة فارس، ومن أجناد الحلقة تتمة الألف فارس. وفرقت فيهم أوراق السفر يوم الإثنين خامسه. وكتب بحضور العربان من الشرقية والغربية لأجل الجمال.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس، وقبض على الأمير بكتمر الحاجب وجماعة، في يوم الخميس ثاني ربيع الأول.
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام في عاشره، فأقام عند السلطان أياماً وعاد إلى دمشق مكرماً.
وفيه أنفق السلطان في الأمراء المتوجهين إلى اليمن فقط، فحمل لبيبرس ألف دينار، ولطينال ثمانمائة دينار، ولكل أمير طبلخاناه عشرة ألاف درهم، وللأمير من العشراوات مبلغ ألفي درهم، ولمقدم الحلقة ألف درهم. وحضرت العربان، فاستقر كرا الجمل إلى مكة بمائة وستين درهماً، وإلى ينبع بمائة وثلاثين، ورحل كل جندي على أربعة جمال، جملين إلى مكة، وجملين إلى ينبع، وتولى الأمير عز الدين أيدمر الكبكي أمر العربان وأخذ العسكر في التجهيز، وباعوا موجودهم، فانحط سعر الدنانير من خمسة وعشرين إلى عشرين درهماً، لكثرة ما باعوا من الحلي والمصاغ. وبرزوا من القاهرة إلى بركة الحاج يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر، واستقلوا بالمسير يوم الخميس ثالث عشره.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس ومعه عدة من المهندسين، وعين موضعاً على نحو فرسخ من ناحية سرياقوس ليبتني فيه خانكاه بها مائة خلوة لمائة صوفي، وبجانبها جامع تقام فيه الجمعة، ومكان برسم ضيافة الواردين وحمام ومطبخ، وندب السلطان آقسنقر شاد العمائر لجمع الصناع. ورتب السلطان لها أيضاً قصوراً برسم الأمراء الخاصكية، وعاد، فوقع الإهتمام في العمل حتى كملت في أربعين يوماً.
ثم اقتضى رأي السلطان حفر خليج خارج القاهرة ينتهي إلى سرياقوس، ويرتب عليه السواقي والزراعات، وتسير فيه المراكب أيام النيل بالغلال وغيرها إلى القصور بسرياقوس، وفوض ذلك إلى الأمير أرغون النائب. فنزل الأمير أرغون بالمهندسين في النيل إلى أن وقع الاختيار على موضع بموردة البلاط من أراضي بستان الخشاب، ويقع الحفر في الميدان الظاهري الذي صار بستاناً، ويمر على بركة قرموط إلى باب البحر، ثم إلى أرض الطبالة، ويرمى في الخليج الكبير. فكتب إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال للحفير، وعين لكل واحد من الأمراء أقصاب يحفرها، وابتدأ الحفر مستهل جمادى الأولى إلى أن تم في سلخ جمادى الآخرة. وخربت فيه أملاك كثيرة، وأخذت قطعة من بستان الأمير أرغون النائب، وأعطى السلطان ثمن ما خرب من الأملاك لأربابها، وفيهم من هدم داره وأخذ أنقاضها. والتزم الفخر ناظر الجيش بعمارة قنطرة برأس الخليج عند فمه، والتزم قدادار والي القاهرة بعمل قنطرة تجاه البستان الذي كان ميداناً للظاهر، ورسم بعمل قنطرة الأوز وقناطر الأميرية فلما كانت أيام الزيادة في ماء النيل جرت السفن في هذا الخليج، وعمرت السواقي عليه، وأنشئت بجانبه البساتين والأملاك.
وفي يوم الإثنين سادس جمادى الآخرة: توجه السلطان إلى الخانكاه خارج ناحية سرياقوس، وقد خرجت القضاة والمشايخ والصوفية يوم الأربعاء، وعمل لهم سماط عظيم في يوم الخميس تاسعه بالخانكاه. واستقر مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي وهو شيح خانكاه كريم الدين الكبير بالقرافة في مشيخة هذه الخانكاه، ورتب عنده مائة صوفي وخلع السلطان عليه، وعلى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وولده عز الدين عبد العزيز، وعلى قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي المالكي، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي شيخ خانكاه سعيد السعداء، ورسم للشيخ مجد الدين ببغلة، وأن يلقب بشيخ الشيوخ، وخلع على أرباب الوظالف، وفرق ستين ألف درهم، وخلع على الأمراء وأهل الدولة.
وفيها حبس شهاب الدين أحمد بن محمد بن مري البعلبكي الحنبلي أحد أصحاب ابن تيمية، مقيداً في سجن القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي بالقاهرة، وضرب بالسياط ضرباً مبرحاً، وشهر في تاسع عشرى جمادى الأولى، بعدما أقام في السجن من سادس عشرى ربيع الأولى وكان قد عرض على السلطان في نصف ربيع الآخر، فأثنى عليه الأمير بدر الدين بن جنكلي بن البابا، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير أيدمر الخطيري، حتى كادت تكون فتنة. ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب، فآل الأمر إلى تمكين القاضي المالكي منه كما تقدم. ثم أعيد ابن مري إلى السجن، ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن أفرج عنه، وأخرج إلى القدس بعد يومين من سجنه، وكان مظلوماً. فاتفق عقيب ذلك أن الفقهاء شنعوا على تقي الدين ابن شاس بأنه كفر لتصويبه بعض أراء ابن مري، وشهدوا عليه، فدافع الأخنائي عنه وسكن القضية حتى خمدت، فقال الشيخ برهان الدين إبراهيم الرشيدي في ذلك:
يا قاضياً شاد أحكامه ** على تقى من الله وأقوى أساس

مقالة في ابن مرى لفقت ** تجاوزت في الحد حد القياس

وفى ابن شاس حققت ما أثرت ** فهل أباح الشرع كفر ابن شاس

وفيها بلغ السلطان عن دمرداش بن جوبان متملك الروم ما أغضبه، فكتب يشكوه إلى أبيه جوبان، فأنكر عليه فعله، فاعتذر عما وقع منه، وبلغ جوبان ذلك إلى السلطان، فجهز إلى دمرداش تشريفاً وهدية، وكتب إليه يستميله.
وفي آخر جمادى الآخرة: توجه الأمير الوزير مغلطاي الجمالي، ومكين الدين بن قروينة مستوفي الدولة، على البريد لكشف القلاع وحمل ما فيها من الحواصل، فراك الجمالي المملكة الحلبية، وعاد يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان.
وفيه استقر بهادر البدري في نيابة الكرك، عوضاً عن بيليك الجمالي.
وفي يوم السبت العشرين من رمضان: قدم الأمير سيف الدين بكمش الجمدار الظاهري والأمير بدر الدين بيليك السيفي السلاري المعروف بأبي غدة من بلاد أزبك بهدية، ومعهما كتابه، وهو يسأل أن يجهز له كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول، وكتاب شرح السنة والبحر للروياني في الفقه، وعدة كتب طلبها، فجهزت له.
وفيه خرج السلطان إلى البحيرة، في ثالث عشر ذي الحجة، للصيد.
وفيه بعث السلطان الأمير مغلطاي الجمالي إلى الإسكندرية، فأفرج عن الأمراء المسجونين بها، وهم: طاجار المحمدي، وبلبان الشمسي، وكيتمر، وبهادر التقوى أمير جاندار، فقدموا إلى القاهرة في ثامن عشريه.
وفيها نزل سيل عظيم في النيل حتى اصفر ماؤه، وزاد ستة أصابع.
وأما العسكر المجرد لنجدة صاحب اليمن فإنه سار إلى مكة، وقد كتب السلطان إلى الشريف عقيل أمير ينبع، وإلى الشريفين عطيفة ورميثة أميري مكة، وإلى قوادهما، وإلى بني شعبة وعرب الواديين وسائر عربان الحجاز، بالقيام في خدمة العسكر. ووصل العسكر إلى مكة في السادس والعشرين من جمادى الأولى، ودخلها وأقام بها حتى قدمت المراكب بالغلال وغيرها من مصر إلى جدة، فأبيع الشعير بثلاثين درهماً الأردب، والدقيق بعشرين درهماً الويبة. وتقدم الخادم كافور الشبيلي خادم الملك المجاهد إلى زبيد ليعلم مولاه العساكر، وكتب الأمير ركن الدين بيبرس بن الحاجب، وهو مقدم العسكر إلى أهل حلى بني يعقوب بالأمان، وأن يجلبوا البضائع للعسكر.
ورحل العسكر في خامس جمادى الآخرة من مكة، ومعه الشريف عطفة والشريف عقيل، وتأخر الشريفي رميثة. فوصل العسكر إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يوماً، بعد عشرين مرحلة، فتلقاهم أهلها، ودهشوا لرؤية العساكر، وقد طلبت ولبست السلاح، وهموا بالفرار. فنودي فيهم بالأمان، وألا يتعرض أحد من العسكر لشيء إلا بثمنه، فاطمأنوا وحملوا إلى كل من بيبرس وطينال مقدمي الألوف مائة رأس من الغنم وخمسمائة أردب أذرة، فرداها ولم يقبلا لأحد شيئاً. ورحل العسكر بعد ثلاثة أيام في العشرين منه.
فقدمت الأخبار باجتماع رأي أهل زبيد على الدخول في طاعة الملك المجاهد خوفاً من معرة قدوم العسكر المصري، وأنهم ثاروا بالمتملك عليهم وهو الملك الظاهر، ونهبوا أمواله ففر عنهم، وكتبوا إلى المجاهد بذلك، فقوي ونزل من قلعة تعز يريد زبيد. فكتب أمراء العسكر المصري إليه، وهم قرب حدود اليمن، بأن يكون على أهبة اللقاء. ونزل العسكر على زبيد، ووافاهم المجاهد بجنده، فسخر منهم الناس من أجل أنهم عراة، وسلاحهم الجريد والخشب، وسيوفهم مشدودة على أذرعتهم، ويقاد للأمير فرس واحد مجلل، وعلى رأس المجاهد عصابة ملونة فوق العمامة. وعندما عاين المجاهد العساكر المصرية وهي لابسة ألة الحرب رعب، وهم أن يترجل عن فرسه حتى منعه الأميران بيبرس وآقول من ذلك. ومضى العسكر صفين والأمراء في الوسط حتى قربوا منه، فألقى المجاهد نفسه ومن معه إلى الأرض، وترجل له أيضاً الأمراء وأكرموه وأركبوه في الوسط، وساروا إلى المخيم، وألبسوه تشريفاً سلطانياً وكلفتاه زركش وحياصة ذهب. وركب المجاهد والأمراء في خدمته بالعساكر إلى داخل زبيد، ففرح أهلها فرحاً شديداً.
ومد المجاهد لهم سماطاً جليلاً، فامتنع الأمراء والعسكر من أكله خوفاً من أن يكون فيه ما يخاف عاقبته، واعتذروا إليه بأن هذا لا يكفي العسكر، ولكن في غد يعمل السماط. فأحضر المجاهد إليهم ما يحتاجون إليه، وتولى طباخو الأمراء عمل السماط. وحضر المجاهد وامراؤه، وقد مد السماط بين يدي كرسي جلس عليه المجاهد، ووقف السقاة والنقباء والحجاب والجاشنكيرية على العادة، ووقف الأمير بيبرس رأس الميمنة، والأمير طينال رأس الميسرة. فلما فرغ السماط صاحت الشاويشية على أمراء المجاهد وأهل دولته فأحضروهم، وقرئ كتاب السلطان، فباسوا بأجمعهم الأرض، وقالوا سمعاً وطاعة، وكتب الأمير بيبرس لممالك أليمن بالحضور، فحضروا.
ولم يجهز الملك المجاهد للعسكر شيئاً من الإقامات، وعنفه الأمير بيبرس على ذلك، فاعتذر بخراب البلاد، وكتب لهم على البلاد بغنم وأذرة، فتوجه إليها قصاد الأمراء. وسار المجاهد إلى تعز لتجهيز الإقامات، ومعه الأميران سيف الدين ططر العفيفي السلاح الدار وسيف الدين قجمار في مائتي فارس، وتأخر العسكر بزبيد، وعادت قصاد الأمراء بغير شيء فرحل العسكر من زبيد في نصف رجب يريدون تعز، فتلقاهم المجاهد، ونزلوا خارج البلد، وشكوا ما هم فيه من قلة الإقامات، فوعد بخير. وكتب الأمراء إلى الملك الظاهر المقيم بدملوة، وبعثوا إليه الشريف عطفة أمير مكة وعز الدين الكوندكي، وكتب إليه المجاهد أيضاً يحثه على الطاعة.
وأقام العسكر في جهد، فأغاروا على الضياع، وأخذوا ما قدروا عليه، فارتفع سعر الأذرة من ثلاثين درهماً الأردب إلى تسعين، وفقد الأكل إلا من الفاكهة فقط، لقلة الجلب، واتهم أن ذلك بمواطأة المجاهد خوفاً من العسكر أن يملك منه البلاد.
ثم إن أهل جبل صبر قطعوا الماء عن العسكر، وتخطفوا الجمال والغلمان. وزاد أمرهم إلى أن ركب العسكر في طلبهم، فامتنعوا بالجبل، ورموا بالمقاليع على العسكر، فرموهم بالنشاب. وأتاهم المجاهد فخذلهم عن الصعود إلى الجبل، فلم يعبأوا بكلامه، ونازلوا الجبل يومهم، ففقد من العسكر ثمانية من الغلمان، وبات العسكر تحته. فبلغ بيبرس أن المجاهد قرر مع أصحابه بأن العسكر إذا صعد الجبل يضرمون النار في الوطاق وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس وقبض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجوده، ووسطه قطعتين وعلقه على الطريق، ففرح أهل تعز بمتله، وكان بهادر قد تغلب على زبيد، وتسمى بالسلطنة، وتلقب بالملك الكامل، وظل متسلطاً عليها، حتى طرده أهلها عند قدوم العسكر.
وقدم الشريف عطفة والكوندكي من عند الملك الظاهر صاحب دملوة، وأخبرا بأنه في طاعة السلطان. وطلب بيبرس من المجاهد ما وعد به السلطان، فأجاب بأنه لا قدرة له إلا بما في دملوة فأشهد عليه بيبرس قضاة تعز بذلك، وأنه أذن للعسكر في العود، لخراب البلاد وعجزه عما يقوم به للسلطان، وأنه امتنع بقلعة تعز.
ورحل العسكر إلى حلي بني يعفوب، فقدمها في تاسع شعبان. ورحلوا منها أول رمضان إلى مكة، فدخلوها في حادي عشره بعد مشقة زائدة. وساروا من مكة يوم عيد الفطر، وقدموا بركة الحاج أول يوم ذي القعدة.
وطلع الأمراء إلى القلعة، فخلع عليهم في يوم السبت ثالثه. وقدم الأمير بيبرس هدية، فأغرى الأمير طينال السلطان بالأمير بيبرس، وأنه أخذ مالاً من المجاهد وغيره، وأنه قصر في أخذ مملكة اليمن.
فلما كان يوم الإثنين تاسع عشره: رسم بخروجه إلى نيابة غزة، فامتنع لأنه كان قد بلغه ما قيل عنه، وأن السلطان قد تغير عليه، فقيد وسجن في البرج، وقبضت حواشيه، وعرقبوا على المال فلم يظهر شيء.
وفي ثالث ذي الحجة: قبض على إبراهيم ابن الخليفة أبي الربيع، وسجن بالبرج، لأنه تزوج بمغنية، وأشهد عليه بطلاقها.
وفي ثالث عشر ذي القعدة: قدم ألطبغا نائب حلب، وسافر أخر يوم الأحد.
وفي أول ذي الحجة: خلع على الأمير بهادر البدري السلاح دار، واستقر في لنيابة الكرك، عوضاً عن عز الدين أيبك الجمالي، ونقل الجمالي لنيابة غزة، فسار إليها في خامس عشره.
وفي ثالث عشره: توجه السلطان إلى الصيد نحو الجيزة، وأفرج عن بلبان الشمسي وبهادر التقوى وأمير جاندار، وطاجار المحمدي.

.ومات في هذه السنة ممن له ذكر:

حجاب بنت عبد الله شيخة رباط البغدادية في المحرم، وكانت صالحة خيرة، ملازمة للرباط، تعظ النساء.
ومات الأمير سيف الدين قطز عند عوده من اليمن، وحمل إلى مكة فدفن بها، وكان جواداً عفيفاً.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس المنصور في ليلة الخميس خامس عشرى رمضان، وهو أحد مماليك المنصور قلاوون، واستنابه بالكرك، وعزله الملك الأشرف خليل بالأمير جمال الدين أقوش، ثم صار دوادار السلطان وناظر الأحباس، وولي نيابة السلطنة بديار مصر، وكان عاقلاً كثير البر، وإليه تنسب المدرسة الدوادارية بخط سويقة العزي خارج القاهرة، وله تاريخ سماه زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، يدخل في أحد عشر سفراً، أعانه على تأليفه كاتبه ابن كبر النصراني وكان يجلس رأس الميسرة، فأخذ إقطاعه الأمير مغلطاي الجمال وأخرج منه طبلخاناه لبلبان السناني وصار الأمير عز الدين أيدمر الخطيري بعده يجلس في رأس الميسرة.
ومات الشريف منصور بن جماز بن شيحة في حرب يوم الرابع والعشرين من رمصان، قتله حديثة ابن ابن أخيه، وكان له في الإمرة ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر وأيام، واستقر عوضه في إمرة المدينة النبوية ابنه بدر الدين كبيشة بن منصور، وقدم منصور إلى القاهرة مراراً.
ومات الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب السر، بدمشق في شعبان، عن إحدى وثمانين سنة، وقدم القاهرة مراراً.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن الجمال أحمد بن الصفي عبد الخالق الشهير بالتقي الصائغ شيخ القراء بمصر في ليلة الأحد ثامن عشر صفر.
ومات نجم الدين أبو بكر بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الشافعي بالقاهرة في ثالث ذي القعدة، وكان فاضلاً، إلا أنه رمي في عقله وعقيدته بأشياء.
ومات الأمير سيف الدين بلبان التتري المنصوري في ذي القعدة.
ومات الخطيب جمال الدين محمد بن تقي الدين محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن أحمد القسطلان في ليلة السبت مستهل ربيع الأول، واستقر ابن أخيه الخطيب تقي الدين بن نور الدين مكانه خطيباً بجامع القلعة، ورتب ولده زين الدين أحمد بن جمال الدين في خطابة جامع عمرو وإمامته ونظره.
ومات شرف الدين يونس بن أحمد بن صلاح القلقشندي الفقيه الشافعي في خامس عشرى ربيع الآخر.